لعلَّ من أخوات (إنَّ)، تدخل على الجملة الاسميَّة فتَنسخها، فتنصب المبتدأ ويُسَمَّى اسمها، وترفع الخبر ويُسمَّى خبرها، ولها ثلاثة معانٍ:
المعنى الأول وهو الأشهر: التوقُّع، وهو: الترجي في الشيء المحبوب، نحو قولك: لعلَّ الحبيبَ قادمٌ، والإشفاق (الخوف) في الشيء المكروه، نحو قولك: لعلَّ العدوَّ قادمٌ، ومنه قول الله — عزَّ وجلَّ -: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3]؛ أي: قاتلٌ نفسَك، والمعنى: أَشْفِقْ على نفسِك أن تقتلَها حسرةً على ما فاتكَ من إسلام قومك.
فتوقُّع الشيء المحبوب يسمى ترجيًا، وتوقُّع الشيء المكروه يسمى إشفاقًا، ولا يكون التوقع إلاَّ في الشيء الممكن الحصول والوقوع، وأمَّا قول فرعون: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ [غافر: 36 — 37]، وقوله: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾[القصص: 38]، مُستعملاً (لَعلَّ) في مستحيل الحصول والوقوع؛ لأنه أمْرٌ مُمكنٌ متوقَّعٌ في زَعمه الباطل.
والمعنى الثاني: ذكَره الأخفش والكسائي، وهو: التعليل، نحو قولك لصديقك: افرغ من عملِكَ لعلَّنا نتغدَّى، وأَنْهِ عملك لعلَّك تأخذُ أجْرَك، والمعنى: لنتغدَّى، ولتَأْخذ، ومنه قوله — جل وعلا -: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]؛ أي: ليتذكَّر.
والمعنى الثالث: ذكَره الكوفيون، وهو: الاستفهام، ومنه قوله — تعالى -: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾ [عبس: 3]؛ أي: وما يُدريك أَيَزَّكَّى؟ والمعنى: وما يُدريك جواب هذا السؤال؟ وكلُّ شيء في القرآن الكريم ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ ﴾، فلم يدره، وكلُّ شيء فيه ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ ﴾، فقد أدْرَاه.
وقد اضطرَب كلام العلماء في (لعلَّ) الواقعة في كلام الله — تعالى — وذلك لاستحالة تَوَقُّع وتَرقُّب الشيء غير الموثوق بحصوله ووقوعه في حَقِّه تعالى؛ لأنَّ علمَه مُحيطٌ بكلِّ شيءٍ.
فقال بعض العلماء: معنى (لعلَّ) التعليل، فمعنى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 132]: لتُرحَموا، ومعنى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 63]: لتتَّقوا، ومعنى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130]: لتُفلحوا، ومعنى: ﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 53]: لتهتدوا، ومعنى: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ﴾ [البقرة: 52]: لتشكروا.
لكنَّ هذا القولَ لا يستقيم في قوله — تعالى -: ﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ [الشورى: 17]؛ لأنَّه لا معنى فيه للتعليل.
وقيل: إنَّ (لَعَلَّ) تُفيد تحقيق مضمون الجملة التي بعدها ووقوعه، نحو قولك: لَعَلَّ المجتهدَ ينجحُ، ولا يستقيم ذلك في قوله — عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ [هود: 12]؛ لأنَّ ترْكَ بعض ما يوحى إلى النبيِّ — صلَّى الله عليه وسلَّم — غيرُ ممكنٍ عقلاً وشرعًا؛ لكونه معصومًا، وقوله — جلَّ جلاله — لموسى وهارون — عليهما وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام — حين أرسَلهما إلى فرعون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]؛ لأنَّه لَم يحصل من فرعون تذكُّرٌ، وأمَّا قوله — جل جلاله — حكاية عن فرعون: ﴿ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90]، فتوبةُ يأسٍ لَم تُقبل، ولو حصَل منه تذكُّرٌ حقيقيٌّ، لَقُبِلَ منه هذا القول.
وقال سيبويه: إنَّ معنى (لعلَّ) في القرآن الكريم هو الترجِّي أو الإشفاق باعتبار حال المخاطبين، فهما متعلقان بهم؛ لأنَّ الأصل ألاَّ تخرج الكلمةُ عن معناها بالكلية، فـ(لعلَّ) منه تعالى حملٌ لنا على أن نترجى أو نشفقَ، وحَثٌّ لنا على ذلك، كما أنَّ (أو) المفيدة للشك إذا وقعَت في كلامه تعالى، كانت للتشكيك أو الإبهام على السامع، لا للشكِّ، تعالى الله عن ذلك.
وأرى أنَّ (لَعَلَّ) قد جاءَت في مواضع متعددةٍ من كلام الله — تعالى — وتنوَّعت معانيها تَمَشِّيًا مع سياق الآيات الكريمة، فلا ضيرَ إنْ حُمِلَت في بعض الآيات على معنًى من المعاني المذكورة دون غيره، متى اقتضى السياقُ القرآني ذلك.
أمَّا الوقوف عند معنًى واحدٍ منها فقط، وعدم قَبول غيره، فهذا ما لا أرتضيه، ولا أقبله البتةَ؛ لأنه يُوقعُ في خطأ كبيرٍ، وإثمٍ عظيمٍ.
وإن كان هناك رأيٌ من الآراء السابقة يُمكِنُ الوقوف عنده والأخذ به في جميع الآيات، فرأي سيبويه أقواها وأولاها؛ لكنه يحتاج إلى تأويل، وما لا يحتاج إلى تأويلٍ أَوْلَى بالقَبول مما يحتاج.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10].
هذا، والحمد لله ربِّ العالمين، الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمدٍ وآله، عددَ قَطْر الأمطار، وعدد ماء البحار والأنهار، وعدد ما أظلَم عليه الليل، وأشرَق عليه النهار.
مقالات متعلقة
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/36984/#ixzz423saUiCo